الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فالكتابة نعمة من نعم اللّه العظمى على الإنسان، تكمل بها نعمة الكلمة التي وضعها سبحانه وتعالى في فم الإنسان..فلا عجب إذن أن يقسم اللّه سبحانه وتعالى بالكتاب، من حيث هو جنس عام لكل ما يكتب، وأن ينظمه في نسق واحد، مع هذه المعالم المباركة، التي أقامها اللّه سبحانه، هدى، ورحمة للناس.. كالطور، والبيت المعمور، والسقف المرفوع، والبحر المسجور..{والبيت المعمور}: هو البيت الحرام، الذي عمره اللّه سبحانه وتعالى بالواردين عليه، من المؤمنين، وبما يذكرون اللّه فيه..{والسقف المرفوع}: هو السماء. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} (32: الأنبياء).. وقوله سبحانه: {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها} (2: الرعد). {والبحر المسجور}: هو البحر المحيط بهذا العالم الأرضى.. و{المسجور}: المربوط، المحبوس عن مفارقة الأرض، والانفلات منها، وهو كائن مائع، لا تمسكه إلا قدرة القادر..{تمور السماء مورا}: أي تضطرب اضطرابا، وتموج موجا..{يدعون إلى نار جهنم دعّا}: أي يدفعون إليها دفعا شديدا..فالطور، والكتاب المسطور، والبيت المعمور، والسقف المرفوع، والبحر المسجور، أقسام خمسة، أقسم اللّه سبحانه وتعالى بها، وهى بهذا القسم من اللّه سبحانه تلبس ثوب التكريم، والتعظيم، وفى تكريمها وتعظيمها، إشعار بعظمة الخالق، وجلاله، الذي أبدع هذه المخلوقات العظيمة، وأقامها هذا المقام الكريم، حتى لقد كانت أهلا لأن يقسم خالقها بها، ويعرضها في هذا المعرض الكريم..هذا، ويلاحظ أن سورة (الذاريات) قد بدئت بأربعة أقسام من الخالق جل وعلا على أربعة مخلوقات من مخلوقاته: {الذاريات ذروا} {فالحاملات وقرأ}.. {فالجاريات يسرا}.. {فالمقسّمات أمرا}..وقد أوقع اللّه سبحانه وتعالى هذه الأقسام الأربعة على وقوع الدينونة، وحساب الناس وجزائهم يوم القيامة..ثم أتبع سبحانه وتعالى هذه الأقسام بقسم خامس، هو قوله سبحانه: {والسماء ذات الحبك}.. وأوقع سبحانه هذا القسم على اختلاف الناس، وأنهم فريقان: مؤمن وكافر: {إِنَّكُمْ لَفِي قول مُخْتَلِفٍ} وفى سورة الطور هنا، بدأها اللّه سبحانه وتعالى بخمسة أقسام.. ثم أوقع هذه الأقسام على وقوع العذاب، الذي هو وجه من وجهى الجزاء يوم القيامة..ووقوع العذاب يوم القيامة، يعنى وقوع هذا اليوم، ويعنى البعث، والحساب..وعلى هذا- واللّه أعلم- يكون القسم الخامس هنا مراعى فيه تلك الإضافة الجديدة على ما وقع عليه القسم في سورة الذاريات، وهو وقوع العذاب بأهله الكافرين الضالين، على حين تكون الأقسام الأربعة، مؤكّدة للأقسام الأربعة، التي جاءت في تلك السورة، والتي وقعت على الإخبار بمجىء يوم القيامة.. أما القسم الخامس الذي جاء في سورة الذاريات واقعا على اختلاف الناس، وافتراقهم إلى فرقتين: مؤمنين وكافرين، فهو تمهيد للقسم الخامس الذي ورد في سورة الطور واقعا على ما يلقاه فريق من أحد الفريقين- وهو فريق الكافرين- من عذاب واقع في هذا اليوم. اهـ.
والمنشور: المبسوط غير المطوي قال يزيد بن الطثرية: أي: أقسم بحال نشره لقراءته وهي أشرف أحواله لأنها حالة حصول الاهتداء به للقارئ والسامع.وكان اليهود يكتبون التوراة في رقوق ملصق بعضها ببعض أو مخيط بعضها ببعض، فتصير قطعة واحدة ويطوونها طيًّا اسطوانيًا لتحفظ فإذا أرادوا قراءتها نشروا مطويها، ومنه ما في حديث الرجم «فنشروا التوراة».وليس المراد بكتاب مسطور القرآن لأن القرآن لم يكن يومئذٍ مكتوبًا سطورًا ولا هو مكتوبًا في رَق.ومناسبة القسم بالتوراة أنها الكتاب الموجود الذي فيه ذكر الجزاء وإبطال الشرك وللإِشارة إلى أن القرآن الذي أنكروا أنه من عند الله ليس بدعًا فقد نزلت قبله التوراة وذلك لأن المقْسَم عليه وقوع العذاب بهم وإنما هو جزاء على تكذيبهم القرآن ومن جاء به بدليل قوله بعد ذكر العذاب.{فويل يومئذٍ للمكذبين الذين هم في خوض يلعبون} [الطور: 11، 12].والقسم بالتوراة يقتضي أن التوراة يومئذٍ لم يكن فيها تبديل لما كتبه موسى: فإمّا أن يكون تأويل ذلك على قول ابن عباس في تفسير معنى قوله تعالى: {يحرفون الكلم عن مواضعه} [المائدة: 13] أنه تحريف بسوء فهم وليس تبديلًا لألفاظ التوراة، وإمّا أن يكون تأويله أن التحريف وقع بعد نزول هذه السورة حين ظهرت الدعوة المحمدية وجَبَهت اليهودَ دلالةُ مواضع من التوراة على صفات النبي محمد صلى الله عليه وسلم أو يكون تأويله بأن القسم بما فيه من الوحي الصحيح.والبيت المعمور: عن الحسن أنه الكعبة وهذا الأنسب بعطفه على الطور، ووصفه بـ {المعمور} لأنه لا يخلو من طائف به، وعمران الكعبة هو عمرانها بالطائفين قال تعالى: {إنما يعمر مساجد اللَّه من آمن باللَّه واليوم الآخر} [التوبة: 18] الآية.ومُناسبة القسم سبق القسم بكتاب التوراة فعقب ذلك بالقسم بمواطن نزول القرآن فإن ما نزل به من القرآن أنزل بمكة وما حولها مثل جبل حِراء.وكان نزوله شريعة ناسخة لشريعة التوراة، على أن الوحي كان ينزل حَول الكعبة.وفي حديث الإِسراء «بينا أنا نائم عند المسجد الحرام إذ جاءني الملكان» الخ، فيكون توسيط القسم بالكعبة في أثناء ما أقسم به من شؤون شريعة موسى عليه السلام إدماجًا.وفي (الطبري): أن عليًا سئل: ما البيت المعمور؟ فقال: «بيت في السماء يدخله كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه أبدًا، يقال: له الضُراح» (بضم الضاد المعجمة وتخفيف الراء وحاء مهملة)، وأن مجاهدًا والضحاك وابن زيد قالوا مثل ذلك.وعن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «هل تدرون ما البيت المعمور؟ قال: فإنه مسجد في السماء تحته الكعبة» إلى آخر الخبر.وثمة أخبار كثيرة متفاوتة في أن في السماء موضعًا يقال له: البيت المعمور، لكن الروايات في كونه المرادَ من هذه الآية ليست صريحة.وأما السقف المرفوع: ففسروه بالسماء لقوله تعالى: {وجعلنا السماء سقفًا محفوظًا} [الأنبياء: 32] وقوله: {والسماء رفعها} [الرحمن: 7] فالرفع حقيقي ومناسبة القسَم بها أنها مصدر الوحي كله التوراة والقرآن.وتسمية السماء على طريقة التشبيه البليغ.والبحر: يجوز أن يراد به البحر المحيط بالكرة الأرضية.وعندي: أن المراد بحر القلزم، وهو البحر الأحمر ومناسبة القَسَم به أنه به أُهلك فرعون وقومه حين دخله موسى وبنو إسرائيل فلحق بهم فرعون.و {المَسجور}: قيل المملوءُ، مشتقًا من السَّجر، وهم الملء والإِمداد.فهو صفة كاشفة قصد منها التذكير بحال خلق الله إياه مملوءًا ماء دون أن تملأه أودية أو سيول، أو هي للاحتراز عن إرادة الوادي إذ الوادي ينقص فلا يبقى على ملئه وذلك دال على عظم القدرة.والظاهر عندي: أن وصفه بالمسجور للإِيماء إلى الحالة التي كان بها هلاك فرعون بعد أن فَرق الله البحر لموسى وبني إسرائيل ثم أسجره، أي أفاضه على فرعون وملئه.وعذاب الله المُقْسَم على وقوعه هو عذاب الآخرة لقوله: {يوم تمور السماء مورًا} إلى قوله: {تكذبون} [الطور: 9 14].وأما عذاب المكذبين في الدنيا فسيجيء في قوله تعالى: {وإن للذين ظلموا عذابًا دون ذلك} [الطور: 47].وتحقيق وقوع عذاب الله يوم القيامة إثبات للبعث بطريق الكناية القريبة، وتهديد للمشركين بطريق الكناية التعريضية.والواوات التي في هذه الآية كلها واوات قسم لأن شأن القسم أن يعاد ويكرر، ولذلك كثيرًا ما يُعيدون المقسم به نحو قول النابغة: وإنما يعطفون بالفاء إذا أرادُوا صفات المقسم به.ويجوز صرف الواو الأولى للقسم واللاتي بعدها عاطفات على القسم، والمعطوف على القسم قسم.والوقوع: أصله النزول من علوّ واستعمل مجازًا للتحقق وشاع ذلك، فالمعنى: أن عذاب ربك لمتحقق.وحذف متعلق {لواقع}، وتقديره: على المكذبين، أو بالمكذبين، كما دل عليه قوله بعدُ {فويل يومئذ للمكذبين} [الطور: 11]، أي المكذبين بك بقرينة إضافة رب إلى ضمير المخاطب المشعر بأنه معذبهم لأنه ربك وهم كذّبُوك فقد كذبوا رسالة الرب.وتضمن قوله: {إن عذاب ربك لواقع} إثبات البعث بعد كون الكلام وعيدًا لهم على إنكار البعث وإنكارهم أن يكونوا معذبين.وأتبع قوله: {لواقع} بقوله: {ما له من دافع}، وهو خبر ثان عن {عذاب} أو حال منه، أي: ما للعذاب دافع يدفعه عنهم.والدفع: إبعاد الشيء عن شيء باليد وأطلق هنا على الوقاية مجازًا بعلاقة الإِطلاق ألا يقيهم من عذاب الله أحد بشفاعة أو معارضة.وزيدت {من} في النفي لتحقيق عموم النفي وشموله، أي نفي جنس الدافع.روى أحمد بن حنبل عن جبير بن مطعم قال: «قدمت المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم لأُكلمه في أُسارى بدر فدُفعت إليه وهو يصلِّي بأصحابه صلاة المغرب فسمعته يقرأ {والطور} إلى {إن عذاب ربك لواقع ما له من دافع} فكأنما صُدع قلبي»، وفي رواية «فأسلمت خوفًا من نزول العذاب وما كنت أظن أن أقوم من مقامي حتى يقع بي العذاب». اهـ.من الإعجاز العلمي في القرآن للدكتور زغلول النجار:بحث بعنوان: من أسرار القرآن:
|